فصل: ما يؤخذ من الآية من الأحكام:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآيات (6- 7):

قال الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}.
اهدنا: وفقنا، وهو يتعدى بإلى وباللام، كقوله تعالى: {اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 121] وقوله: {وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا} [الأعراف: 43] وقد يحذف الحرف كقوله: {اهْدِنَا الصِّراطَ...} على حد قوله:
أستغفر الله ذنبا لست محصيه ** ربّ العباد إليه الوجه والعمل

السراط: الجادة، من سرط الشيء إذا ابتلعه، لأنه يسرط السابلة إذا سلكوه، كما سمّي لقما لأنه يلتقمهم، وقد تقلب سينها صادا لأجل الطاء، وقد تشمّ الصاد صوت الزاي، وقرئ بهن جميعا.
والعرب تستعير الصراط لكل قول أو عمل وصف باستقامة أو اعوجاج، والمراد به هنا طريق الحق وهو ملة الإسلام.
والضال: الحائد عن قصد السبيل، والسالك غير المنهج القويم. والمراد بالمغضوب عليهم والضالين: كل حائد عن صراط الإسلام. وقيل: المراد بالمغضوب عليهم: اليهود، لقوله تعالى في وصفهم: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ} [المائدة: 60] والمراد بالضالين: النصارى، لقوله تعالى في وصفهم: {قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77)} [المائدة: 77].
آمين: اسم صوت سمي به الفعل الذي هو استجب، وفيه لغتان: القصر والمد في الألف، كقوله: ويرحم الله عبدا قال آمينا، وقوله: أمين فزاد الله ما بيننا بعدا المعنى: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} أي اهدنا إلى دينك الحق الذي لا يقبل من العباد غيره، {صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بطاعتك وعبادتك: من ملائكتك، وأنبيائك، والصديقين، والشهداء الذين هم لا مغضوب عليهم، ولا هم ضالون.
ومعنى طلب الهداية إلى الدين الحق والداعي مهتد إليه طلب زيادة الهدى أو الثبات و{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ} إما أن تكون صفة للذين، وإما أن تكون بدلا منها، وإنما جاز كونها صفة مع أنها نكرة والموصوف معرفة لأن الذين أنعمت عليهم لا توقيت فيه كقوله: ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني.
ولأنّ المغضوب عليهم والضالين خلاف المنعم عليهم، فليس في {غَيْرِ} في هذا الموضوع الإبهام الذي أبى أن تتعرف بالإضافة، ودخلت لَا في قوله: {وَلَا الضَّالِّينَ} لما في {غَيْرِ} من معنى النفي، كأنه قيل: لا المغضوب عليهم ولا الضالين. ويدل على أن {غَيْرِ} في معنى لَا أنه يجوز أن تقول أنا زيدا غير ضارب، مع امتناع أنا زيدا مثل ضارب، وإنما جاز الأول، لأنه بمنزلة أنا زيدا لا ضارب.

.حكم قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة:

اختلف العلماء في قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة فذهب بعضهم إلى وجوبها، وذهب بعضهم إلى عدم وجوبها، بل الواجب مطلق قراءة. وممن قال بذلك أبو حنيفة، وقد حدّ أصحابه ما يجب قراءته فقالوا: الواجب ثلاث آيات قصار أو آية طويلة. والقائلون بوجوب قراءة الفاتحة في الصلاة اختلفوا فمنهم من قال بوجوبها في كل ركعة، وقيل بوجوبها في أكثر الصلاة. وممن قال بالأول الإمام الشافعي والإمام مالك في أشهر الروايات عنه، وقد روي عنه أنه «إن قرأها في ركعتين من الرباعية أجزأته». وذهب الحسن البصري إلى أنها تجزئ في ركعة واحدة من الصلاة. وسبب الخلاف تعارض الآثار بعضها مع بعض، ومعارضة ظاهر الكتاب لبعضها.
أما الآثار التي تدل على وجوب قراءتها:
فحديث عبادة بن الصامت، وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»، وحديث أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ الكتاب فهي خداج- ثلاثا- غير تمام».
أما ما يدلّ على عدم وجوبها، بل على قراءة ما تيسّر من القرآن فحديث أبي هريرة أن رجلا دخل المسجد فصلّى، ثم جاء فسلّم على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فردّ عليه السّلام وقال: «ارجع فصلّ، فإنّك لم تصلّ» فصلى، ثم جاء، فأمره بالرجوع إلى فعل ذلك، ثلاث مرات، فقال: والذي بعثك بالحقّ ما أحسن غيره، فقال عليه الصلاة والسلام: «إذا قمت إلى الصلاة فأسبع الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبّر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئنّ ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تستوي قائما، ثم افعل ذلك في صلاتك كلّها».
وأما الكتاب فقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] فهذا يدل على أنّ الواجب أن يقرأ أيّ شيء تيسّر من القرآن، فهو يعارض حديث عبادة، ويعضد حديث أبي هريرة الأخير، لأن الآية في القراءة في الصلاة بدليل قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} إلى قوله: {فَاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] ولم يختلف الأئمة في أنّ ذلك في شأن الصلاة في الليل، وقد اعتمد المالكية والشافعية حديث عبادة: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب».
وحملوا النفي على نفي الحقيقة، وكأنّهم رأوا الآية من المبهم والحديث من المعيّن، والمبهم يحمل على المعيّن.
أما الحنفية فرأوا أن الآية تفيد التخيير، وليست من باب المطلق، فإنّ معنى (ما تيسر) أيّ شيء تيسر، فالآية دلت على التخيير، فإذا جاء بعد ذلك معين يكون ناسخا ولا نسخ هنا. قالوا: وقد جاء حديث أبي هريرة في تعليم الرجل صلاته معضّدا لما ذهبنا إليه.
أما حديث عبادة بن الصامت فقد حملوه على نفي الكمال، كقوله: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد».
وأما حديث: «فهي خداج».
فقالوا فيه: هو يدلّ لنا، لأن الخداج: الناقصة، وهذا يدل على جوازها مع النقصان، لأنّها لو لم تكن جائزة لما أطلق عليها اسم النقصان، لأنّ إثباتها ناقصة ينفي بطلانها، إذ لا يجوز الوصف بالنقصان لما لم يثبت منه شيء.
أما سبب اختلاف من أوجب قراءتها في الكل أو في البعض فما في الضمير في قوله: «لا صلاة لمن لم يقرأ فيها» من احتمال عوده على كل أجزاء الصلاة أو بعضها.

.الأحكام التي تؤخذ من الفاتحة:

قد أسلفنا أن {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)} على تأويل قولوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)} بدليل قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فإنه على تأويل قولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} حتما، فعلمنا أن الأمر وهو (قولوا) مضمر في ابتداء السورة أيضا، وذلك يقضي أن الله أمرنا بفعل الحمد، وعلمنا كيف نحمده، وكيف نثني عليه، وكيف ندعوه.
ومما يؤخذ منها من آداب الدعاء أنه ينبغي أن يبدأ بحمد الله والثناء عليه، ليكون ذلك أدعى إلى الإجابة، إذ إن الله قدّم حمده والثناء عليه بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ إلى مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} على الدعاء وهو قوله: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)}. اهـ.

.من سورة البقرة:

.تفسير الآيات (102- 103):

قال الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)}
{السِّحْرَ}: في اللغة: كل ما لطف مأخذه، وخفي سببه، ومنه سحره: خدعه، والسحر الرئة. (الفتنة): الاختبار والابتلاء، ومنه قولهم: فتنت الذهب في النار إذا امتحنته لتعرف جودته من رداءته. (والخلاق): النصيب. {شَرَوْا}: باعوا، قال الشاعر:
وشريت بردا ليتني ** من بعد برد كنت هامه

قبل الخوض في تفسير الآية نذكر نبذة عن السحر: أله حقيقة أم لا؟ فنقول: اختلف الناس في السحر، فذهب جمهور العلماء إلى أن للسحر حقيقة، وأنه تقتدر به النفوس البشرية على التأثير في عالم العناصر، إما بغير معين، أو بمعين من الأمور السماوية، ويرون أنّ النفوس الساحرة على ثلاث مراتب:
أولها: المؤثرة بالهمة فقط من غير آلة ولا معين.
وثانيتها: بمعين من مزاج الأفلاك أو العناصر، أو خواصّ الأعداد.
وثالثها: تأثير القوى المتخيلة، فيعمد صاحب هذه المرتبة إلى القوة المتخيلة، فيلقي فيها أنواعا من الخيالات والصور، ثم ينزلها إلى الحس من الرائين بقوة نفسه المؤثرة، فينظر الراءون كأنها في الخارج، وليس هناك شيء من ذلك، ويقولون: إن هذه المراتب تنال بالرياضة، ورياضة السحر بالتوجه إلى الأفلاك والكواكب والعوالم العلوية والشياطين بأنواع التعظيم والعبادة، فهي لذلك وجهة وسجود لغير الله، والوجهة لغير الله كفر، فلهذا كان السحر كفرا، ويرون أن الساحر يقدر على الأفعال الغريبة فيطير في الهواء، ويركب المكانس وغيرها يذهب بها إلى أماكن بعيدة، ويصوّر المرء بغير صورته.
ويرى المعتزلة وبعض أهل السنة أن السحر لا حقيقة له، وإنما هو خداع وتمويه وتخيّل، وإلى هذا ذهب أبو جعفر الإستراباذي من الشافعية، وأبو بكر الرازي من الحنفية، وابن حزم الظاهري وطائفة. ويرون أنّ السحر بهذا المعنى ضروب.
فمن ضروبه كثير من التخيّلات التي مظهرها على خلاف حقائقها، كما يفعله بعض المشعوذين، من أنه يريك أنه ذبح عصفورا، ثم يريكه وقد طار بعد ذبحه وإبانة رأسه، وذلك لخفة حركته، والمذبوح غير الذي طار، لأنه يكون معه اثنان قد خبأ أحدهما- وهو المذبوح- وأظهر الآخر.
وكان سحر سحرة فرعون من هذا النوع. فقد قيل إن عصيهم كانت عصيا مجوفة، قد ملئت زئبقا وكذلك الحبال كانت من أدم محشوة زئبقا، وقد حفروا قبل ذلك تحت المواضع أسرابا وملئوها نارا. فلما طرحت عليها وحمي الزئبق حركها، لأن من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير، وقد أخبر الله عن ذلك بقوله: {فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى} [طه: 66].
وضرب آخر، وهو ما يدعونه من حديث الجن والشياطين، وطاعتهم لهم بالرقى والعزائم ويتوصلون إلى ما يريدون من ذلك بتقدمة أمور، ومواطأة قوم، قد أعدوهم لذلك.
وعلى ذلك كان يجري أمر الكهان من العرب في الجاهلية، وكثير ممن يدّعون السحر يوكّلون أناسا بالاطلاع على أسرار الناس، حتى إذا جاء أصحابها أخبروهم بها، فيعتقدون فيهم أن الشياطين تخبرهم بالمغيبات.
ويقال: إنّ مخاريق الحلاج كانت كلها بالمواطأة، فكان يواطئ أقواما يضعون له خبزا ولحما، وفاكهة في مواضع بعينها، ثم يمشي مع أصحابه في البرية، ثم يأمر بحفر هذه المواضع، فيخرج ما خبّأ من الخبز واللحم والفاكهة، فيعدونها من الكرامات.
وضرب آخر من السحر: هو السعي بالنميمة والوشاية والإفساد من وجوه خفيّة لطيفة، كما حكي أنّ رجلا تزوّج امرأة على أخرى. فعظم ذلك على الأولى، فاستعانت برجل، فتوصل إلى أن قال للثانية: إن أردت أن تنغرس محبتك في قلب الزوج فخذي موسى، فاقطعي ثلاث شعرات من لحيته مما يقارب الحلق، وألقى في روع الزوج أنّ هذه المرأة ستختانه بالقتل، فلما قرّبت الموسى منه لم يشك أن الأمر على ما قال الرجل من أنها قصدت قتله، فقام إليها وقتلها، وكان ذلك تفريقا بين المرء وزوجه.
فأنت ترى أنهم يرجعون السحر: إما إلى تمويه وخفة في اليد، وإما إلى مواطأة وإما إلى سعي ونميمة. ولا يرون الساحر يقدر على شيء مما يثبته له الآخرون من التأثير في الأجسام الأخرى، دون مماسّة. ومن قطع المسافات البعيدة في الزمن الوجيز. وقد قال أبو بكر الرازي: وحكمة كافية تبيّن لك أن هذا كله مخاريق وحيل لا حقيقة لما يدّعون لها. إنّ للساحر والمعزّم لو قدرا على ما يدّعيانه من النفع والضر من الوجوه التي يدّعون، وأمكنهما الطيران والعلم بالغيوب، وأخبار البلدان النائية، والخبيئات والسرقة والإضرار بالناس من غير الوجوه التي ذكرنا، لقدروا إلى إزالة الممالك، واستخراج الكنوز، والغلبة على البلدان بقتل الملوك، بحيث لا يبدؤوهم بمكروه. ولاستغنوا عن الطلب لما في أيدي الناس.
فإذا لم يكن كذلك، وكان المدّعون لذلك أسوأ الناس حالا، وأظهرهم فقرا وإملاقا، علمت أنهم لا يقدرون على شيء من ذلك. ورؤساء الحشو والجهّال من العامة من أسرع الناس إلى تصديق السحرة والمعزّمين، وأشدهم نكيرا على من جحدها، ويروون في ذلك أخبارا مفتعلة متخرّصة يعتقدون صحتها. كالحديث الذي يروونه أن امرأة أتت عائشة فقالت: إني ساحرة فهل لي من توبة؟ فقالت: وما سحرك؟ قالت: سرت إلى الموضع الذي فيه هاروت وماروت ببابل لطلب علم السحر. فقالا لي: يا أمة الله! لا تختاري عذاب الآخرة بأمر الدنيا. فأبيت. فقالا لي: اذهبي فبولي على ذلك الرماد، فذهبت لأبول عليه، ففكرت في نفسي فقلت: لا فعلت، وجئت إليهما وقلت: قد فعلت. فقالا: ما رأيت؟ قلت لم أر شيئا، فقالا: ما فعلت، اذهبي فبولي عليه، فذهبت وفعلت، فرأيت كأنّ فارسا قد خرج من فرجي مقنّعا بالحديد حتى صعد إلى السماء، فجئتهما فأخبرتهما فقالا: ذلك إيمانك قد خرج عنك، وقد أحسنت السحر. فقالت: وما هو؟ فقالا: لا تريدين شيئا فتصورينه في وهمك إلا كان، فصورت في نفسي حبا من حنطة، فإذا إنا بالحب، فقلت له: انزرع، فانزرع.
فخرج من ساعته سنبلا. فقلت له: انطحن وانخبز، إلى آخر الأمر، حتى صار خبزا، وإني كنت لا أصوّر في نفسي شيئا إلا كان، فقالت لها عائشة: ليست لك توبة.
ويروي القصّاص والمحدثون الجهال مثل هذا للعامة فتصدقه، وتستعيده، وتسأله أن يحدثها بحديث ساحرة ابن هبيرة. فيقول لها: إن ابن هبيرة أخذ ساحرة فأقرّت له بالسحر، فدعا الفقهاء، فسألهم عن حكمها. فقالوا: القتل، فقال ابن هبيرة: لست أقتلها إلا تغريقا. قال: فأخذ رحى البزار، فشدّها في رجلها، وقذفها في الفرات، فقامت فوق الماء مع الحجر، فجعلت تنحدر مع الماء، فخافوا أن تفوتهم، فقال ابن هبيرة: من يمسكها، وله كذا وكذا؟ فرغب رجل من السحرة كان حاضرا فيما بذله. فقال: أعطوني قدح زجاج فيه ماء، فجاءوه به، فعقد على القدح، ومضى إلى الحجر، فشق الحجر بالقدح، فتقطّع الحجر قطعة قطعة، فغرقت الساحرة فيصدقونه.
ومن صدق هذا فليس يعرف النبوة، ولا يأمن أن تكون معجزات الأنبياء عليهم السلام من هذا النوع: وأنهم كانوا سحرة. وقال الله تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى} [طه: 69] وقد أجازوا من سحر الساحر ما هو أعظم من هذا وأفظع. وذلك أنهم زعموا أن النبي عليه الصلاة والسلام سحر، وأن السّحر عمل فيه حتى قال: «إنه يخيل إلي أني أقول الشيء وأفعله، ولم أقله ولم أفعله».
وأن امرأة يهودية سحرته في جفّ طلعة نخل ذكر ومشط ومشاقة، حتى أتاه جبريل عليه السلام فأخبره أنها سحرته في جف طلعة، وهو تحت راعونة البئر، فاستخرج، وزال عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك العارض. وقد قال الله تعالى مكذّبا للكفار فيما ادعوه من ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال جل من قائل: {وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً} [الفرقان: 8].
ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين تلعّبا بالحشوية الطغام. واستجرارا لهم إلى القول بإبطال معجزات الأنبياء عليهم السلام، والقدح فيها. وأنه لا فرق بين معجزات الأنبياء وفعل السحرة، وأن جميعه من نوع واحد.
والعجب ممن يجمع بين تصديق الأنبياء عليهم السلام وإثبات معجزاتهم، وبين التصديق بمثل هذا من فعل السحرة مع قوله تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى} [طه: 69] فصدّق هؤلاء من كذّبه الله، وأخبر ببطلان دعواه وانتحاله.
وجائز أن تكون المرأة اليهودية بجهلها ظنا منها بأن ذلك يعمل في الأجساد قصدت به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فأطلع الله نبيّه على موضع سحرها، وأظهر جهلها. فيما ارتكبت وظنت. ليكون ذلك من دلائل نبوته، لا أنّ ذلك ضرّه وخلّط عليه أمره. ولم يقل كل الرواة: إنه اختلط عليه أمره، وإنما هذا اللفظ زيد في الحديث ولا أصل له.
والفرق بين معجزات الأنبياء عليهم السلام وبين ما ذكرنا من وجوه التخييلات، أن معجزات الأنبياء عليهم السلام هي على حقائقها، وبواطنها كظواهرها، وكلّما تأملتها ازددت بصيرة في صحتها.
ولو جهد الخلق كلّهم على مضاهاتها ومقابلتها بأمثالها، ظهر عجزهم عنها.
ومخاريق السحرة وتخييلاتهم إنما هي ضرب من الحيلة والتلطف لإظهار أمور لا حقيقة لها، وما يظهر منها على غير حقيقتها، يعرف ذلك بالتأمل والبحث، ومن شاء أن يتعلم ذلك بلغ فيه مبلغ غيره، ويأتي بمثل ما أظهره سواه. اهـ.
ولنرجع إلى تفسير الآية:
{وَاتَّبَعُوا} أي اليهود، قيل: الذين كانوا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: الذين في زمن سليمان عليه السلام، وقيل: أعم، لأنّ متبعي السحر من اليهود لم يزالوا من عهد سليمان إلى أن بعث الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم.
فأخبر الله عن اليهود أنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم {وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ} أي تقرأ وتخبر عن ملك سليمان، قيل: على عهده، وقيل تكذب عليه، لأن الخبر إذا كان كذبا قيل: تلا عليه، وإن كان صادقا قيل: تلا عنه.
وكان كذبهم {عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ} أنهم كانوا يزعمون أنّ سليمان كان ساحرا، وأنه ما سخّرت له الجن إلا بسحره.
قال محمد بن إسحاق: قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون من محمد يزعم أن سليمان كان نبيا؟ والله ما كان إلا ساحرا! فأنزل الله تعالى: {وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ}.
والمراد بالشياطين شياطين الإنس والجن، وقد برأ الله سليمان مما قذفوه به من السحر. فقال: {وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا} بنسبة السحر إلى سليمان على وجه الكذب وجحدهم نبوته، ثم وصف الشياطين بقوله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} على وجه الإضرار، {وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ}.
قيل: هو عطف على ما تتلو الشياطين، أي اتبعوا هذا وذاك. وقد علم من هذا أن السحر أنزل على الملكين ببابل، وقد أنزله الله عليهما ليعرّفاه الناس، فيتحرّزوا من ضرره، لأن تعريف الشر حسن، ومعه يصحّ الاحتراز. وقد كان أهل بابل قوما صابئين، يعبدون الكواكب، ويسمّونها آلهة، ويعتقدون أن حوادث العالم كلها من أفعالها، وكانت علومهم الحيل والنيرنجيات وأحكام النجوم، وكانت لهم رقىّ بالنبطية، فيها تعظيم الكواكب، ويزعمون أنهم بهذه الرقى يفعلون ما يشاءون في غيرهم من غير مماسّة ولا ملامسة، وكانت السحرة تحتال بحيل تموّه على العامة إلى اعتقاد صحته، ومعتقد ذلك يكفر من وجوه:
أحدها: التصديق بوجوب تعظيم الكواكب وتسميتها آلهة.
ثانيها: الاعتقاد بأن الكواكب تقدر على الضرر والنفع.
ثالثها: أن السحرة تزعم أنها تقدر على معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فبعث الله ملكين يبيّنان للناس حقيقة ما يدّعون بطلانه، ويكشفان لهم عن وجوه الحيل التي يخدعون بها الناس، وينهيانهم عن العمل بها، يقولان {إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} فكانا يعلّمانهم للتحرّز لا للعمل، وما في ذلك بأس، قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: فلان لا يعرف الشر، قال: أجدر أن يقع فيه، وقد قيل:
عرفت الشرّ لا للشرّ ** لكن لتوقّيه

ومن لا يعرف الشـ ** ـرّ من النّاس يقع فيه

ثم قال: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} وهذا ذم لمن يتعلم ليضرّ به، لا ليتوقى به، والتفريق بين المرء وزوجه بالسعاية والنميمة والوجوه الخفية التي من جنس ما ذكر في الحكاية المتقدمة.
وقد روي عن الحسن أنه كان يقرأ: {وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} بكسر اللام، ويقول: كانا علجين أقلفين، يأمران بالسحر ويتمسكان به، وقيل: إن (ما) للجحد والمعنى: ولم ينزل على الملكين ببابل. وقيل: إنّ (ما أنزل) عطف على ملك سليمان، والمعنى: واتّبعوا ما تكذب به الشياطين على ملك سليمان، وما أنزل على الملكين، فكما كذبوا على ملك سليمان كذبوا أيضا على ما أنزل على الملكين، لا أنهما أنزلا ليعلّمان الناس السحر، ويكون قوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما} أي من السحر والكفر، لأن قوله: {وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا} يتضمن الكفر، فيرجع إليهما.
قوله: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11)} [الأعلى: 10- 11] أي الذكرى.
{وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ} معناه أن الملكين لا يعلمان ذلك أحدا، ومع ذلك لا يقتصران على ألا يعلماه حتى يبالغا في نهيه، فيقولان: {إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} وكل هذا للفرار من أنّ الله أنزل على الملكين السحر مع ذمه السحر والساحر، وقد علمت أنه أنزل عليهما ليعلم الناس حيل السحرة وخدعهم.
{وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} الإذن هنا: العلم دون الأمر، وقيل: المراد بالإذن التخلية، قال الحسن: من شاء الله منعه، فلا يضره السحر، ومن شاء خلّى بينه وبينه فضرّه.
{وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} لأنهم يقصدون به الشرّ {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} أي لقد علم هؤلاء اليهود أنّ من استبدل ما تتلو الشياطين بكتاب الله ما له في الآخرة من نصيب.
{وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} أي باعوها. ولعل قائلا يقول: إنّ الله أثبت لهم العلم مؤكدا بقوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ} ثم نفاه عنهم بقوله: {لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ}.
والجواب: أنّ المراد لو كانوا يعملون بعلمهم، جعلهم حين لم يعملوا به كأنّهم غير عالمين. وقيل: إن العلم علمان: علمّ يقيني متسلط على النفس فلا تعلم إلا بمقتضاه، وعلم ليست له هذه السلطة على النفس، فتتصرف النفس على خلافه، والمنفي عنهم هو الأول، والمثبت لهم هو الثاني، فلا منافاة.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)} المثوبة: مصدر من قول القائل: أثبتك إثابة، وثوابا ومثوبة. وأصل ذلك ثاب الشيء بمعنى رجع. ثم يقال: أثبته إليك أي رجّعته ورددته، وكان معنى إثابة الرجل على الهدية وغيرها أن يرجع إليه منها بدلا، وأن يردّ عليه منها عوضا، ثم جعل كل معوّض غيره من عمله، أو هديته. أو يد سلفت منه إليه، مثيبا له: ومنه ثواب الله عباده على أعمالهم، بمعنى إعطائه إياهم العوض والجزاء حتى يرجع إليهم بدل عملهم الذي عملوه.
المعنى: ولو أنهم آمنوا بمحمد والقرآن، واتقوا ربهم فخافوا عقابه فأطاعوه بأداء فرائضه، وتجنبوا معاصيه، لكان جزاء الله إياهم، وثوابه لهم على إيمانه به وتقواهم خيرا لهم من السحر ومما اكتسبوا. ويقال في نفي العلم عنهم هنا كما قيل هناك.
وقد أجاز الزمخشري أن تكون (لو) للتمني على سبيل المجاز عن إرادة الله إيمانهم واختيارهم له. كأنه قيل: وليتهم آمنوا. ثم ابتدئ: {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ}.
وقال بعضهم: إن قوله تعالى: {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} ليس هو الجواب، وإنما هو دالّ على الجواب، والجواب محذوف تقديره: لأثيبوا.
وقد ذكر أهل الأخبار ونقلة المفسرين أخبارا في تفسير هذه الآية مؤداها أن هاروت وماروت أنزلا ليحكما بين الناس، وركبت فيهما الشهوة، فزنيا، وشربا الخمر، وكفرا، فخيرهما الله بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا، فعلّقا ببابل يعلمان الناس السحر.
وهذه الأخبار لم يرد منها شيء صحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإنما هي من كتب اليهود ومن افترائهم، فكما افتروا على سليمان، كذلك افتروا على الملكين.
وهذه الأخبار قد انطوت على عدم عصمة الملائكة، وجلة العلماء على عصمتهم لقوله تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] وقوله: {وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20)} [الأنبياء: 19، 20] وغير ذلك من الآيات، ومما يدل على عدم صحة هذه الأخبار أن أصحابها يزعمون أن هاروت وماروت قد اختارا عذاب الدنيا فعلّقا ببابل، وأن امرأة في زمن السيدة عائشة رضي الله عنها قد ذهبت إليهما، وتعلمت منهما السحر، وجاءت تستفتي هل لها توبة؟ وبابل بلدة قديمة كانت في سواد الكوفة، وقيل: الكوفة على قول المفسرين، أو هي بلدة في الجانب الشرقي من نهر الفرات، بعيدة عنه على قول علماء التاريخ. وهذه الجهات ليست من الأماكن المجهولة التي لم تطرق، بل هي أماكن معروفة قد طرقها الناس في القديم والحديث، ولم يعثر أحد على هذين الملكين هناك.
وقد رأيت أن ما جاء في الآية من ذكرهما لا يلزم أن يحمل على ما جاء في هذه الأخبار، بل يصح أن يحمل على ما حملنا وحمله جملة من المفسرين عليه.

.ما يؤخذ من الآية من الأحكام:

يؤخذ من الآية أنّ عمل السحر كفر. لقوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ} أي: من السحر، {وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ} أي بعمل السحر {وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا} أي به وبتعليمه وهاروت وماروت يقولان: {إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ}. وهذا كله يدل على أنّ السحر كفر، وهو قول مالك وأبي حنيفة. وذهب الشافعيّ إلى أن السحر معصية: إن قتل بها قتل. وإن أضرّ بها أدّب على قدر الضرر. والحق الأول لما تدل عليه الآية، ولأن السحر كلام يعظّم به غير الله تعالى، وتنسب إليه المقادير والكائنات.
واعلم أنه إذا جعل السحر ضربا واحدا، وكان كله تعظيما لغير الله، وكان فيه إسناد الحوادث للكواكب، جاز إطلاق القول بكفر الساحر، وهو قول الجمهور.
أما إذا كان السحر ضروبا، ومن ضروبه السعي بالنميمة والإفساد بالحيل- كما هو قول الرازي والمعتزلة- فلا يصح القول بإطلاق الكفر على الساحر، لأنّ من يستعمل من ضروبه السعي بالنميمة لا يكفر بذلك. وقد فطنوا لذلك فلم يكفّروا من السحرة إلا من يعظّم الكواكب، ويسند الحوادث إليها، أو يزعم أنه يقدر على الخوارق للعادة، فيكفر لأنه يدعي أنه يقدر على مثل ما يكون للأنبياء من معجزات، وفي ذلك طعن في معجزاتهم. وسدّ لباب دلالة المعجزة على نبوتهم. أما من يستعمل في ضروبه الإفساد بالنميمة، أو خفّة اليد، دون ادعاء ما ذكر، فلا يكون بذلك كافرا. والآية محمولة على سحر أهل بابل، وهو كان تعظيما للكواكب كما تقدم.
وإذا كان السحر كفرا. كان المسلم إذا عمل السحر مرتدا بذلك، فيحكم عليه بالقتل، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من بدّل دينه فاقتلوه».
على هذا اتفق علماء الأمصار، ما عدا الشافعي ومن تبعه.
وقد استدلّ الأولون بما روي عن ابن قانع قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا ابن الأصبهاني قال: حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن سمرة بن جندب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «حدّ الساحر ضربه بالسيف» وقد روي هذا عن كثير من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين منهم: عمر، وعثمان، وعلي، والروايات في ذلك كثيرة عن السلف الصالح.
ومالك رحمه الله راعى ذلك الأصل، وهو أنه يقتل لكفره، فإن كان مجاهرا به قتل. وماله فيء. وإن كان يخفيه أجراه مجرى الزنديق، فلم يقبل توبته، كما لم يقبل توبة الزنديق، ولم يقتل ساحر أهل الذمة، لأنه غير مستحق للقتل بكفره، لأننا قد أقررناه عليه، فلا يقتل إلا أن يضر بالمسلمين، فيكون ذلك عنده نقضا للعهد، فيقتل كما يقتل الحربي.
وأما أبو حنيفة رحمه الله فلم يراع ذلك الأصل دائما، فحكم على الساحر بالقتل سواء أكان مسلما أم ذميا، فلو كان قتل الساحر لكفره، لما قتل الذمي الساحر لأنه كافر أصلا، وقد أقررناه على كفره.
وقد علّل أصحابه لذلك فقالوا: الساحر جمع إلى كفره السعي في الأرض بالفساد، فأشبه المحارب، فلذلك قتل الساحر سواء أكان ذميا أم مسلما، فلم يفرق بين الساحر من أهل الذمة والمسلمين، كما لا يختلف حكم المحارب من أهل الذمة والإسلام فيما يستحقونه من حكم القتل، ولذلك لم تقتل المرأة الساحرة، لأن المرأة من المحاربين عندهم لا تقتل حدا. وإنما تقتل قودا.
وقد ذكروا وجها آخر في قتل الذمي الساحر، مع أننا أقررناه على كفره وهو: أن الكفر الذي صار إليه بسحره لم نقره عليه، ولم نعطه الذمة عليه، إنما أقررناه على كفره الظاهر، ألا ترى أنه لو سألنا إقراره على السحر في نظير الجزية لم نجبه إليه.
ولا يظنّ ظانّ أن أبا حنيفة إنما يقتل الساحر لحرابته لا لكفره، لأنه لو كان كذلك لأجراه مجرى المحارب قاطع الطريق عنده، فلم يقتله إلا إذا قتل.